الشراكة التركية الأفريقية- رؤية جديدة نحو عالم أكثر عدلاً وازدهارًا

في خطوة استراتيجية ذات أبعاد مستقبلية، بادر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى ترسيخ مكانة تركيا كلاعب محوري في السياسة الدولية من خلال استضافة قمة الشراكة التركية الأفريقية في قلب إسطنبول النابضة بالحياة. تأتي هذه القمة في أعقاب قمة أخرى شهدتها تركيا الشهر الفائت، بحضور ممثلين عن سبع دول، مع انضمام المجر كمراقب، مما يعكس الديناميكية المتنامية للعلاقات التركية مع مختلف الأطراف الدولية.
تتيح هذه القمة رفيعة المستوى لتركيا فرصة سانحة لعرض رؤيتها الثاقبة للعالم، وبناء تحالفات استراتيجية جديدة على الساحة الدولية المزدحمة. الرئيس أردوغان، الذي يرى بعين ناقدة التركيبة الحالية للأمم المتحدة، لم يتردد في التعبير عن رأيه بصراحة وجلاء، مؤكدا أن "العالم أوسع بكثير من مجرد خمس قوى، فهو عالم رحب ومتنوع على كافة الأصعدة".
إن صوت الرئيس التركي لا يقتصر على التعبير عن وجهة نظر بلاده فحسب، بل يتعداه إلى تشجيع فعال على إقامة شراكات وهياكل عالمية بديلة، وتفعيل دورها في خدمة مصالح مشتركة. فبالإضافة إلى قمة مجلس الدول الناطقة بالتركية، تستضيف تركيا قمة الشراكة مع أفريقيا، ساعية بكل جد وإخلاص إلى دعم إنشاء نظام عالمي أكثر عدلا وإنصافا، يتيح للدول غير الممثلة في مجلس الأمن الدولي إسماع صوتها والمساهمة في صياغة مستقبل العالم.
في مجال الاستثمار وتعزيز العلاقات التجارية الوثيقة، اضطلعت العديد من المؤسسات التركية بدور حيوي ومحوري في زيادة حجم الاستثمارات والمبادلات التجارية مع الدول الأفريقية. وقد تجاوز حجم التبادل التجاري بين الجانبين بالفعل حاجز الـ 25 مليار دولار، ويطمح الرئيس أردوغان إلى مضاعفة هذا الرقم ليصل إلى 50 أو حتى 75 مليار دولار في المستقبل القريب.
انعقدت قمة الشراكة التركية الأفريقية، التي استمرت فعالياتها على مدى ثلاثة أيام، في إسطنبول تحت شعار طموح يعكس الرغبة المشتركة في "شراكة معززة من أجل التنمية المشتركة والازدهار"، بمشاركة نخبة من رؤساء الدول والحكومات وكبار المسؤولين. وقد استعرض الرئيس أردوغان تاريخ الشراكة التركية الأفريقية الممتد، والتي انطلقت في عام 2005 واكتسبت زخما متزايدا بعد عام 2009، لتتحول إلى شراكة استراتيجية راسخة.
في عام 2008، أعلن الاتحاد الأفريقي تركيا "شريكا استراتيجيا"، وشهدت إسطنبول في العام نفسه انعقاد أول قمة شراكة تركية أفريقية، تلتها القمة الثانية في مالابو عام 2014.
في غضون ذلك، شهدت العلاقات بين تركيا ودول القارة الأفريقية تعزيزا ملحوظا على جميع المستويات. فقد ارتفع عدد السفارات التركية في القارة من 19 إلى 43 سفارة في السنوات الـ 13 الأخيرة، ويضم 19 من هذه السفارات ملحقين عسكريين، مما يعكس التزام تركيا بتعزيز التعاون الأمني مع الدول الأفريقية. هذا العدد الكبير من السفارات يعكس بكل تأكيد الزيادة المطردة في المبادلات التجارية والتعاون الوثيق في مجالات النقل والاتصالات، فضلا عن الجانب التنموي الهام.
تعد الخطوط الجوية التركية رمزا بارزا لانفتاح تركيا على العالم، حيث توفر رحلات جوية مباشرة إلى 61 وجهة مختلفة في قارة أفريقيا، مما يسهل حركة التجارة والسياحة وتبادل الخبرات بين الجانبين.
كما تضطلع الوكالة التركية للتعاون والتنسيق "تيكا" (TİKA)، بصفتها إحدى المؤسسات الهامة التي تمثل القوة الناعمة لتركيا، بدور حيوي في دعم مشاريع التنمية الاجتماعية والاقتصادية في مختلف أنحاء القارة الأفريقية، ولديها مكاتب تمثيلية في 22 بلدا أفريقيا.
وتقدم مؤسسة معارف التعليمية، التي تحظى بسمعة دولية مرموقة ولديها 175 مؤسسة تعليمية في 26 دولة، منحا دراسية للتعليم العالي لأكثر من 5 آلاف طالب، معظمهم من الدول الأفريقية، مما يساهم في بناء جيل جديد من القادة الأفارقة المتعلمين والمؤهلين. وفي العديد من دول القارة، يعود خريجو الدراسات العليا من تركيا ليشغلوا مناصب قيادية هامة في بلدانهم، ويساهمون في التنمية والازدهار.
كما حظيت المسلسلات التاريخية التركية بشعبية جارفة في العديد من دول أفريقيا، مما عزز الصورة الإيجابية عن تركيا وثقافتها الغنية في هذه الدول.
إضافة إلى ذلك، اكتسبت العديد من المنظمات الإنسانية التركية خبرة واسعة في العمل الإنساني في مختلف مناطق أفريقيا، من بينها "هيئة الإغاثة الإنسانية" و"أطباء حول الأرض"، وقد ساعدت هذه المنظمات غير الحكومية التركية على بناء جسور من التواصل والتآخي بين الشعب التركي والشعوب الأفريقية من خلال تنفيذ مشاريع حيوية مثل حفر الآبار وتوفير جراحات العيون وتقديم المساعدات الإنسانية المتنوعة.
وفي مجال الاستثمار والعلاقات التجارية، لعبت العديد من المؤسسات دورا محوريا في زيادة حجم الاستثمارات والمبادلات التجارية بين تركيا والدول الأفريقية. وقد تجاوز حجم التجارة بين الجانبين 25 مليار دولار، ويهدف الرئيس أردوغان إلى الوصول إلى 50 أو 75 مليار دولار في أقرب وقت ممكن.
إن علاقة تركيا بأفريقيا لا تقوم بأي حال من الأحوال على الاستغلال أو تحقيق مصالح ضيقة، على عكس ما كان سائدا في العلاقات بين الدول الأوروبية والقارة الأفريقية في الماضي. ففي كل شراكة تعقدها تركيا مع أي بلد أفريقي، يكون كل طرف مستفيدا على قدم المساواة، دون التأثير على استقرار هذه الدول أو التدخل في شؤونها الداخلية.
وعلى الرغم من الظروف الوبائية الصعبة التي يمر بها العالم، فإن القمة التي حضرها 16 رئيس دولة وحكومة إلى جانب 102 وزير أفريقي -بينهم 26 وزير خارجية- يمكن اعتبارها استجابة إيجابية لدعوة الرئيس التركي، وتعكس الثقة المتزايدة في دور تركيا كشريك استراتيجي موثوق به. وكرر أردوغان أطروحته التي ذكرها مرارا وتكرارا في القمة، مؤكدا "نحن نؤيد زيادة وتعزيز تمثيل البلدان الأفريقية في مجلس الأمن في إطار شعارنا "العالم أكبر من 5 قوى".
وأضاف أردوغان "أود أن أغتنم هذه الفرصة لأؤكد التزامنا الراسخ بمواصلة التعاون الوثيق مع أصدقائنا الأفارقة بشأن قضايا الإرهاب والجريمة المنظمة ومكافحة المخدرات والحد من الفقر والتنمية والتعليم والأوبئة، وغيرها من التحديات المشتركة".
وفي هذا السياق، قدم أردوغان كتابه القيم تحت عنوان "من الممكن إنشاء عالم أعدل"، والذي صدر بثلاث لغات عالمية هي: الإنجليزية والعربية والفرنسية، بهدف نشر رؤيته لإصلاح النظام العالمي وتعزيز العدالة والمساواة بين جميع الدول.
تدرك تركيا تمام الإدراك أن أفريقيا تعد من بين المناطق الأسرع نموا في العالم في القرن الحادي والعشرين. ففي عام 2020، كانت 7 من بين 10 بلدان حققت أسرع نمو اقتصادي في العالم من أفريقيا، وهذا المعطى الهام يجعل أفريقيا وجهة جذابة للاستثمارات والشراكات من قبل الدول المتقدمة، ويزيد من اهتمام تركيا بتعزيز علاقاتها مع دول القارة.
بطبيعة الحال، تغيرت أفريقيا اليوم عما كانت عليه في السابق، ولن تقبل أي دولة أفريقية العلاقات الاستغلالية التي كانت تجمعها بالمستعمرين الأوروبيين في الماضي. وفي حين يتعين على البلدان الأخرى إظهار التزامها الجاد بإنشاء علاقات جديدة قائمة على الاحترام المتبادل والمنفعة المشتركة مع الدول الأفريقية، ومواجهة ماضيها الاستعماري، فإن تركيا تتفوق عليها بميزة هامة، وهي أنه ليس لديها أي تجارب مؤلمة مع أي بلد في أفريقيا تمثل عائقا أمام التعاون المثمر. بل على العكس من ذلك، تجمع تركيا علاقات وطيدة وقوية مع دول القارة من خلال المنظمات الإنسانية التركية الناشطة في المنطقة وغيرها من المؤسسات المنتشرة في البلدان الأفريقية.
وفي ختام القمة، أعلن الرئيس أردوغان عن مبادرة سخية تقضي بإرسال 15 مليون جرعة من لقاحات "كوفيد-19" إلى البلدان الأفريقية، وذلك في إطار جهود تركيا لمساعدة القارة في مواجهة جائحة كورونا. كما اقترح عقد هذه القمم بشكل أكثر تواترا، لتعزيز الحوار والتعاون المستمر بين تركيا والدول الأفريقية. ومن خلال هذه الفعاليات والمبادرات، يسعى الرئيس التركي إلى تقديم مساهمته الفعالة في بناء عالم جديد أكثر عدلا وازدهارا، حيث تكتسي التجارة والتسوق والتعاون والتضامن في القيم المشتركة أهمية بالغة، وحيث يحقق كل فرد في المجتمع الدولي أكبر قدر ممكن من الاستفادة.